الحداثَة وفوضى المصطلح
يحكى أن رجلاً قال لآخر هل تناظر فقال له لا حتى نتفق على المصطلحات , وقيل لغوتّه هل تؤمن بالله ؟ فقال للسائل حدد لي عن أي إله تسأل حتى أجيبك .
لا أحد ينكر ما يعيشه العالم من فوضى غريبة لم تسبق في مسألة الاصطلاحات في شؤون الأدب والسياسة والفن والفكر الخ.... , هذه الفوضى ناشئة عن ضبابية في الرؤية أحياناً وعن تعمد الضبابية أحياناً أخرى , ولا أدل على ذلك من مفهوم الإرهاب الذي أفاق أخيراً من المعجم مذعوراً.
وفي معترك هذه الفوضى نجد بعضهم يردد كلمة "حداثة" و"حداثي" وما يشتق منها أو يتصل بها , بسبب حيناً وبلا سبب أحياناً . في مجلس بسيط أو على شاشة التلفاز أو الإذاعة .......الخ .أغلب ذلك يتم كنوع من التثاقف مصحوباً بلبس نظارات ولف قدم على قدم . وقلة قليلة تعرف مدلول هذه الكلمة وتعني ما تقول وتقول ما تعني . ومع ذلك فالحديث عن فوضى الدلالة والمصطلح هو مع هذه القلة , إذ أن البقية لا يهمها أكثر من الإطار والمنظر.
بعض هذه القلة تعني بالحداثة انتصار العقل و الانقطاع عن التراث وتفكيك التصورات الدينية للعالم باسم "العقلنة" وصولاً إلى "الدَنيوة " (العَلمنة) , وهنا نجد أنفسنا أمام ثنائية التراث والحداثة , فالحَداثيون –أو بعضهم- يريدون إعطاء الظهر للتراث كلياً ويرون ذلك من ضرورات التطور والتقدم , وأنه إن كان لا بد من الاهتمام بالتراث فليكن من باب الحفاظ على "الفكر والفن والأدب الشعبي وما يُعرف بالفلكلور" لا أكثر . ومن ثَمّ الإقبال على الحداثة التي تتطلب"عملية الهدم " هدم الأصل بالأصل ذاته كما يقول أدونيس .
هذه الرؤية جعلت هؤلاء الحَداثيون يثنون على جميع الحركات التحررية(داخل الدولة الإسلامية) في الفكر والأدب والفن والسياسة , لا لأنها تحررية ضد الظلم والجمود والتقليد , بل لأنها تحررية ضد الدين والوحي والتصورات الدينية التي تضع للإنسان ضوابط .
هذه الرؤية تستمد وجودها من "الحداثة الغربية" التي بدأت بإلغاء الإله أو بعدم الاكتراث به إن كان موجوداً , باسم "الأنسنة والعقلنة" ,وانتهت بوصول هذه "الأنسنة" إلى اختزالها في "الجنس واللذة" . ومن ثَمّ فإننا لا نعجب كثيراً إذا قرأنا (عربياً)أدباً حَداثيّاً مليئاً بهذه الرؤية ومتشبّعاً بها , لا يخطئك هذا وأنت تقرأ ديوان صلاح عبد الصبور (قصيدة الإله الصغير)و بدر شاكر السياب (قصيدة المغرب العربي) أو نجيب محفوظ (رواية أولاد حارتنا) نموذجاً .حتى قال الدكتور عمر فروخ :"بأن قلة التأدب وكثرة المدارك الوثنية هي القاعدة في أدب وفكر هؤلاء" .
ولا يفتأ هؤلاء يصرون ويلحون على أن نترك "تقليد الآباء" إلى رحاب التجديد والتطور والمعاصرة ....الخ وما إن نترك هذا التقليد حتى نفاجئ بأنهم يعنون بالتجديد والتّ..والمعا... "تقليد الغرب" , فغاية الحداثة عندهم "جلب أحجار للكعبة من أوربا" كما يقول إقبال .
في المقابل نجد رؤيةً أخرى يتبناها محمد عابد الجابري , تقوم هذا الرؤية على "قهم معاصر للتراث" وذلك لأن التراث العربي الإسلامي ليس ككل تراث مجرد بضاعة تنتمي للماضي , بل هو التركة الروحية والفكرية التي تسهم في إعادة الإنتاج برؤية معاصرة , وبالتالي فإن الحداثة عنده " لا تعني رفض التراث ولا القطيعة مع الماضي بقدر ما تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث " وذلك من خلال "تجاوز الفهم التراثي للتراث " والذي يمارسه كثير من" خريجي الجامعات والمعاهد الأزهرية والزيتونة والقرويين.... الخ" .
ومع الحق الذي يكتنف –برأيي- رؤية الجابري إلا أنه لابد من وضع كلمة" الفهم المعاصر" وما شاكلها من مثل "القراءة المعاصرة" بين قوسين وتحتها خط لأنها كلمات طالما استخدمت بشكل خاطئ وأصبحت تجارية واستهلاكية وركوباً للموجة.
كما أنه من الحق -ونحن نوافق الجابري على أن هناك أجزاء من"الماضي" تحتاج إلى إعادة فهم أو حذف أو ....الخ فإن هناك أجزاء من "الحاضر " تحتاج إلى جهد أكبر من البحث و"التحديث" فضلاً عن"المستقبل" الذي يكتنفه غير قليل من ظِلال انعدام الرؤية.
وإذا كان من حق المعاصرين إعادة النظر في كثير من القضايا التي درسها السلف وإبداء رأي مخالف فيها فإنه ليس من حق أي أحد أن يحاكم تلك الدراسة بعين الحاضر لأن في ذلك إقصاء وتهميش لعوامل الزمان والمكان والمصلحة والاكتشاف العلمي وغير ذلك مما يؤثر ويدفع حركة التغيير .
على أن هناك رؤية ثالثة ترفض الحداثة جملة وتفصيلاً لأنها ترى في الحداثة ما يعنيه أصحاب الرؤية الأولى (تهميش دور الله وانتصار العقل عليه) وهذه الفئة ترى في ذلك "استبداد العقل "و تأليه العقل", وليس إعطاء درو له في فهم الوحي وحركة الحياة .
وهذه الفئة لما رأت فكر وأدب هؤلاء الحداثيين مليئاً بالاستهانة بالمقدسات (الله –الوحي- محمد –الأنبياء) أدبرت عن الحداثة واصفة هؤلاء بأنهم "دعاة الشيطان وأعداء الأمة والإنسانية" مستغنية عن الحداثة فكراً وحتى مصطلحاً , وذلك من خلال التأصيل ووجود البدائل الإسلامية كالاجتهاد و التجديد وهما مصطلحان مدعومان بغير قليل من النصوص القرآنية والنبوية .
هذه الرؤى كما سبق جاءت نتيجة الغموض والرَين الذي اكتنف زلزالاً ثقافياً بحجم الحداثة,هذا الغموض ليس فقط في طبيعة هذا الزلزال وإنما في المتى والأين والمَن واللماذا ,و طالما نتحدث عن زلزال ففي الدرجة والمقياس أيضاً .